فصل: الخبر عن فتح قابس وانتظامها في ملكة السلطان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن ثورة أهل قفصة ومهلك ابن الخلف:

لما استقل الخلف بن علي بن الخلف بحجابة المنتصر ابن السلطان وعقد له مع ذلك على عمله بنفطة فاستخلف عليها عامله ونزل بتوزر مع المنتصر ثم سعى به أنه يداخل ابن يملول ويراسله فبث عليه العيون والأرصاد وعثر على كتابه بخط كاتبه المعروف إلى ابن يملول وإلى يعقوب بن علي أمير الزواودة يحرضهما على الفتنة فتقبض عليه وأودعه السجن وبعث عماله إلى نفطة واستولى على أمواله وذخائره وخاطب أباه في شأنه فأمهله بعد أن تبين نقضه للطاعة وسعيه في الخلاف وكان السلطان قبل فتح نفطة قد نزع إليه من بيوتاتها أحمد بن أبي يزيد وسار في ركابه إليها فلما استولى على البلد رعى له ذمة نزوعه إليه وأوصى به ابنه أبا بكر فاستولى على مشورته وحله وعقده وطوى على البيت ثم حدثته نفسه بالاستبداد وتحين له المواقيت واتفق أن سار الأمير أبو بكر من نفطة لزيارة أخيه المنتصر بتوزر وخلف بالبلد عبد الله الترمكي من مواليهم وكان السلطان أنزله معه وولاه حجابته فلما توارى الأمير عن البلد داخل ابن أبي يزيد من الأوغاد وطاف في سكك المدينة والمهاتفة معه ينادي بالثورة ونقض الطاعة وتقدم إلى القصبة فأغلقها القائد عبد الله دونه وحاربها فامتنعت عليه وقرع عبد الله الطبل واجتمع إليه أهل القرى فأدخلهم من باب كان بالقصبة يفضي إلى النهاية فكثروا ومنع ابن أبي يزيد وتسلل عنه الناس فلاذ بالاختفاء وخرج القائد من القصبة فتقبض على كثير من أهل الثورة وأودعهم السجن واستولى على البلد وسكن الهيعة وطار الخبر إلى المولى أبي بكر فأغذ السير منقلبا إلى قفصة ولحين دخوله ضرب أعناق المعتقلين من أهل الثورة وأمر الهاتف فنادى في الناس بالبراءة من ابن أبي يزيد وأخيه ولأيام من دخوله عثر بهما الحرس في مقاعدهم بالباب مستترين بزي النساء فتقبضوا عليهما وتلوهما إلى الأمير فضرب أعناقهما وصلبهما في جذوع النخل وكانا من المترفين فأصبحا مثلا في الأيام وقد خسرا دينهم ودنياهما وذلك هو الخسران المبين وارتاب المنتصر صاحب توزر حينئذ بابن الخلف وحذر مغبة حاله فقتله بمحبسه وذهب في غير سبيل مرحمة وانتظم السلطان أمصار الجريد كلها في طاعته واتصل ظهوره إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.الخبر عن فتح قابس وانتظامها في ملكة السلطان:

هذه البلد لم تزل في هذه الدولة الحفصية لبني مكي المشهور ذكره في هذه العصور وما إليها وسيأتي ذكر أخبارهم ونسبهم وأوليتهم في فصل نفرده لهم فيما بعد وكان أصل رياستهم فيها اتصالهم بخدمة الأمير أبي زكريا لأول أيام ولاية قابس سنة ثلاث وعشرين وستمائة فاختصوا به وداخلهم في الانتقاض على أخينا أبي محمد عبد الله عندما استجمع لذلك فأجابوه وبايعوه فرعى لهم هذه الوسائل عندما استبد بأفريقية وأفردهم برياسة الشورى في بلدهم ثم سموا إلى الاستبداد عندما فشل ريح الدولة عن القاصية بما حدث من الفتن وانفراد الثغور الغربية بالملك.
ولم يزالوا جانحين إلى هذا الاستبداد ورامقين إليه بنظر العين والانتقاض على السلطان ومداخلة الثوار والإجلاب بهم على الحضرة والدولة أثناء ذلك في شغل عنهم وعن سواهم من أهل الجريد منذ أحقاب متطاولة بما كان من انقسام الدولة وإلحاح صاحب الثغور الغربية على مطالبة الحضرة.
ثم استبد مولانا السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصية في سائر عمالات أفريقية وشغله عنهم شاغل الفتنة مع صاحب تلمسان في الإجلاب على الحضرة مع جيوشه ومنازلتهم ثغر بجاية وتسريبه جيوش بني عبد الواد مرة بعد أخرى مع الأعياص من بني أبي حفص والعرب إلى أفريقية وكان المتولى الرياسة بقابس يومئذ عبد الملك بن مكي بن أحمد ابن عبد الملك رديفه فيها أخوه أحمد وكانا يداخلان أبا تاشفين صاحب تلمسان في الاجلاب على الحضرة مع جيوشه والثوار القادمين معهم وربما خالفوا السلطان إلى الحضرة أزمان مغيبه عنها كما وقع لهم مع عبد الواحد بن اللحياني وقد مر ذكر ذلك.
فلما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان وانمحى أثر بني زيان فزع السلطان أبو بكر لهؤلاء الثوار الرؤساء بالجريد الدائنين بالانتقاض سائر أيامهم وزحف إلى قفصة فملكها فذعروا ولحق أحمد بن مكي بالسلطان أبي الحسن متذمما بشفاعته بعد أن كان الركب الحجازي من المغرب مر بقابس وبه بعض كرائم السلطان فأوسعوا حباءهم وسائر الركب قرى وحباء وقدموا ذلك وسيلة بين يدي وفادنه فقبل السلطان وسيلتهم وكتب إلى مولانا السلطان أبي بكر شافعا فيهم لذمة السلطان والصهر فتقبل شفاعته وتجاوز عن الانتقام منهم بما اكتسبوه.
ثم هلك مولانا السلطان أبو بكر وماج بحر الفتنة وعادت الدولة إلى حالها من الانقسام وانسدت على صاحب الحضرة وجوه الانتصاف منهم فعاد بنو مكي وسواهم من رؤساء الجريد إلى حالهم من الاستبداد على الدولة وقطع أسباب الطاعة ومنع المغارم والجباية ومشايعة صاحب الغربية ركونا على صاحب الحضرة فلما استبد مولانا السلطان أبو العباس بالدعوة الحفصية وجمع الكلمة واستولى على كثير من الثغور المنتقضة تراسل أهل هذه العصور الجريدية وتحدثوا بما دهمهم وطلبوا وجه الخلاص منه والامتناع عليه.
وكان عبد الملك بن مكي أقعدهم بذلك لطول مراسلة الفتن وانحياشه إلى الثوار وكان أحمد أخوه ورديفه قد هلك سنة خمس وستين وسبعمائة وانفرد هو برياسة قابس فراسلوه وراسلهم في الشأن وأجمعوا جميعا على تجييش العرب على السلطان وتسريب الأموال ومشايعة صاحب تلمسان بالترغيب في ملك أفريقية فانتدبوا لذلك من كل ناحية وبعثوا البريد إلى صاحب تلمسان فأطمعهم من نفسه وعللهم بالمواعيد الكاذبة والسلطان أبو العباس مقبل على شأنه يقتل لهم في الذروة والغارات حتى غلب أولاد أبي الليل الذين كانوا يغزونهم بالمدافعة عنهم وافتتح قفصة وتوزر ونفطة وتبين لهم عجز صاحب تلمسان عن صريخهم فحينئذ بادر عبد الملك إلى مراسلة السلطان يعده من نفسه الطاعة والوفاء بالجباية ويستدعي لاقتضاء ذلك منه بعض حاشيته فأجابه إلى ذلك وبعث أمره إليه ورجع إلى الحضرة في انتظاره فطاوله ابن مكي في العرض ورده بالوعد.
ثم اضطرب أمره وانتقض عليه أهل ضاحيته بنو أحمد إحدى بطون دباب وركبوا إليه فحاصروه وضيقوا عليه واستدعوا المدد لذلك من الأمير أبي بكر صاحب قفصة فأمدهم بعسكر وقائد فنازلوه واشتد الحصار واتهم ابن مكي بعض أهل البلد بمداخلتهم فكسبهم في منازلهم وقتلهم وتنكرت له الرعية وساءت حاله ودس إلى بعض المفسدين من العرب من بني علي في تبييت العسكر المحاصرين له واشترط لهم على ذلك مارضوه من المال فجمعوا لهم وبيتوهم فانفضوا ونالوا منهم منهم وبلغ السلطان خبرهم فأحفظه وأجمع الحركة على قابس وعسكر بظاهر الحضرة في رجب سنة إحدى وثمانين وسبعمائة وتلوم أياما حتى استوفى العطاء واعترض العساكر وتوافت أحياء أوليائه من أولاد مهلهل وحلفائهم من سائر سليم ثم ارتحل إلى القيروان وارتحل منها يريد قابس وقد استكمل التعبية وبادر إلى لقائه الأخذ بطاعته مشيخة ذباب أعراب من بني سليم ووفد منهم خالد بن سباع بن يعقوب شيخ المحاميد وابن عمه علي بن راشد فيمن إليهم يستحثونه إلى منازلة قابس فأخذ السير إليها وقدم رسله بين يديه بالإنذار لابن مكي وانتهوا إليه فرجعهم بالإنابة والانقياد إلى الطاعة ثم احتمل رواحله وعبى ذخائره وخرج من البلد ونزل على أحياء دباب هو وابنه يحيى وحافده عبد الوهاب ابن ابنه مكي مالك لها منذ سنين من قبل.
واتصل الخبر بالسلطان فبادر إلى البلد ودخلها في ذي القعدة من سنته واستولى على منازل ابن مكي وقصوره ولاذ أهل البلد بطاعته وولى عليها من حاشيته وكان أبو بكر بن ثابت صاحب طرابلس قد بعث إلى السلطان بالطاعة والانحياش ووافته رسله دون قابس فلما استكمل فتحها بعث إليه من حاشيته لاقتضاء ذلك فرجعهم بالطاعة وأقام عبد الملك بن مكي بعد خروجه من قابس بين أحياء العرب ليالي قلائل ثم يغته الموت فهلك ولحق ابنه وحافده بطرابلس فمنعهم ابن ثابت الدخول إليها فنزلوا بزنزور من قراها في كفالة الجواري من بطون ذباب ولما استكمل السلطان الفتح وشؤنه انكفأ راجعا إلى الحضرة فدخلها فاتح اثنتين وثمانين وسبعمائة ولحق إليه رسوله من طرابلس بهدية ابن ثابت من الرقيق والمتاع بما فيه الوفاء بمغارمه بزعمه.
ووفد عليه بعد استقراره بالحضرة رسل أولاد أبي الليل متطارحين في العفو عنهم والقبول عليهم فأجابهم إلى ذلك ووفد صولة بن خالد شيخهم وقبله أبو صعنونة شيخ حكيم ورهنوا أبناءهم على الوفاء واستقاموا على الطاعة واتصل النجح والظهور والأمر على ذلك لهذا العهد وهو فاتح ثلاث وثمانين وسبعمائة والله مالك الأمور لا رب غيره.